الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي
.تفسير الآية رقم (14): {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}لقد قالوا إنهم نصارى. وأخذ الحق الميثاق منهم، إما ميثاق الذر وإما ميثاقهم لنبيهم عيسى ابن مريم، فنسوا حظاً مما ذكروا به وتركوا ما أمرهم به الإنجيل ونقضوا الميثاق، فتفرقوا في عداء ملحوظ فِرَقاً شتى، وجاء أمر الله كما وعد: {يَا أَهْلَ الكتاب...}..تفسير الآية رقم (15): {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)}كأن الحق سبحانه وتعالى يعطيهم الفرصة والعذر حتى لا يقولن واحد منهم: لم يبلغني عن رسولي شيء. وهناك فترة لم يأت فيها رسول. وها هوذا رسول من الله يأتي حاملاً لمنهج متكامل. ومجيء الرسول يمنحهم ويعطيهم فرصة لتجديد ميثاق الإيمان. وهم قد أخفوا من كتبهم بعض الأحكام. مثل الرجم والربا، وقال بعض من بني إسرائيل في الربا ما ذكره القرآن عنهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} [آل عمران: 75].أي أنهم أقروا الإقراض بالربا لمن هم على غير دينهم، ولكن لا ربا في تعاملهم مع أبناء دينهم. وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلم الشمل وأن يجمع أيديهم مع يده؛ لأنه نبي انتظروه ولهم في كتبهم البشارة به. وأن يقف الجمع المؤمن أمام موجة الإلحاد في الأرض حتى يسيطر نظام السماء على حركة الأرض؛ لذلك قال الحق: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌْ}. ومعنى ذلك ان كتمانهم لبعض منهج الله قد صنع ظلمة في الكون. ومادامت قد حدثت ظلمانية في الكون، وخاصة ظلمانية القيم، إذن فالكون صار في حاجة إلى من ينير له الطريق. ونعرف أن النور هو ما نتبين به الأشياء.وحين يعرض الحق لنا قضية النور الحسي يريد أن يأخذ بيدنا من النور الحسي إلى النور المعنوي؛ فالنور الحسي يبدد ظلام الطريق حتى لا نصطدم بالأشياء أو نقع في هوة أو نكسر شيئاً، لكن عندما يحمل الإنسان نوراً فهو يمشي على بينة من أمره. والنور الحسي يمنع من تصادم الحركات في المخلوقات، حتى لا تبدد الطاقة، فتبديد الطاقة يرهق الكون ولا يتم إنجاز ما.إن الشمس في أثناء النهار تضيء الكون، ثم يأتي القمر من بعد الشمس ليلقي بعضاً من الضوء، وكذلك النجوم بمواقعها تهدي الناس في ظلمات البر والبحر. وجعل الله هذه الكائنات من أجل ألا تتصادم الحركة المادية للموجودات، فإذا كان الله قد صنع نوراً مادياً حتى لا يصطدم مخلوق بمخلوق، فهو القادر على ألا يترك القيم والمعاني والموازين بدون نور، لذلك خلق الحق نور القيم ليهدي الإنسان سواء السبيل، فإذا كان الكافر أو الملحد يتساوى مع المؤمن في الاستفادة بالنور المادي لحماية الحركة المادية في الأرض، ولم نجد أحداً يقول: أنا في غير حاجة للانتفاع بالنور المادي، ونقول للكافرين والملاحدة: مادمتم قد انتفعتم بهذا النور فكان يجب أن تقولوا: إن لله نوراً في القيم يجب أن نتبعه. ويلخص المنهج هذا النور ب (افعل ولا تفعل).فالمنهج- إذن- نور من الله. ولنقرأ: {الله نُورُ السماوات والأرض} [النور: 35].إنه يأخذ بيدنا في الطريق بالنور المادي الذي يستفيد منه الكل، سواء من كان مؤمنا أو غير ذلك، ويضرب سبحانه لنا مثل النور.{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35].والمشكاة هي الطاقة التي توجد في الجدار وهي غير النافذة، إنّها كوة في الجدار يوضع فيها المصباح الزيتي أو (الكيروسيني) وتوجد في المباني البدائية قبل أن يخترع الإنسان المصابيح الكهربية والثريات. ولا تتجاوز مساحة الكوة ثلاثين سنتيمترا، وطولها أربعون سنتيمتراً ولا يزيد عمقها على خمسة عشر سنتيمتراً؛ أما الحجرة فمساحتها تزيد أحياناً على ثلاثة أمتار في الطول والعرض والارتفاع.ويتحدث الحق عن الكوة فقط ولا يتحدث عن الحجرة. وأي مصباح في الكوة قادر على إنارة الحجرة. ولننتبه إلى أن هذا المصباح غير عادي، فهو مصباح في زجاجة. ونعرف أن المصباح الذي في زجاجة هو من الارتقاءات الفكرية للبشر. فالمصابيح قديماً كانت بدون زجاجة وكان يخرج منها ألسنة من السَّناج (الهباب) الذي يُسوّد ما حولها، فالسَّناج أثر دخان السراج في الحائط وغيره. وقد ينطفئ المصباح لأن الهواء يهب من كل ناحية، ثم وضع الإنسان حول شعلة المصباح زجاجة تحمي النار وتركز النور وتعكس الأشعة ويأخذ المصباح من الهواء من خلال الزجاجة على قدر احتياج الاشتعال. {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ} [النور: 35].أي أن النور من هذا المصباح أشد قوة؛ لأن الزجاجة تعكس أشعة المصباح وتنشر الضوء في كل المكان. والزجاجة التي يوجد فيها هذا المصباح ليست عادية: {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35].والكوكب نفسه مضيء، وتكون الزجاجة كأنها هذا الكوكب الدري في ضيائه ولمعانه. والمصباح يوقد من ماذا؟. {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35].وهذا ارتقاء في إضاءة المصباح من زيت شجرة زيتون، والشجرة غير عادية: {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35].فهي شجرة يتوافر لها أدق أنواع الاعتدال: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35].ذلك هو من قدرة الله في نور الكونيات المادية، ولذلك فليس من المعقول أن يترك القيم والمعنويات بدون نور. فكما اهتدى الإنسان في الماديات فينبغي أن يفطن إلى قدرة الحق في هداية المعنويات، بدليل أن الله قال: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} [النور: 35].يهدي الله بنور القيم والمنهج والمعاني من يريد. وقد يهتدي الملحد بنور الشمس المادي إلى الماديات ولكن بصره أعمى عن رؤية نور المنهج والقيم؛ لذلك يوضح سبحانه أن هناك نوراً إلهياً هو المنهج. وضرب هذا المثل ليوضح المعاني الغيبية المعنوية بالمعاني الحسية. ونحن على مقاديرنا نستضيء، فالفقير أو البدائي يستضيء بمصباح غازي صغير، والذي في سعة من العيش قد يشتري مولداً كهربياً. وكل إنسان يستضيء بحسب قدرته. ولكن عندما تشرق الشمس في الصباح ما الذي يحدث؟.يطفئ الإنسان تلك المصابيح، فالشمس هي نور أهداه الله لكل بني الإنسان، ولكل الكون. كذلك إذا فكرنا بعقولنا فيما ينير حياتنا فكل منا يفكر بقدرة عقله.ولكن إذا ما نزل من عند الله نور فهو يغني عن كل نور أخر. وكما نفعل في الماديات نفعل في المعنويات: {نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} [النور: 35].والذي يدلنا على أن النور الثاني هو نور القيم الذي يكشف لنا بضوء (افعل ولا تفعل) أن الله قال بعد ذلك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [النور: 36].ولوبحثت عن متعلق الجار والمجرور لم تجده إلا في قوله: (في بيوت أذن الله أن ترفع) كأن النور على النور يأتي من مطالع الهدى في مساجده. فهي بيوت الله نقبل عليها ليفيض منها نور الحق على الخلق. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 36-37].وكلمة {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} لا تعني تحريم التجارة، فالإنسان الصادق لا تلهيه التجارة عن ذكر الله. وليكن الله على بال المؤمن دائما، فعندما يكون الإنسان على ذكر لله فالله يعطيه من مدده.إذن يا أهل الكتاب قد جاءكم النور، وبين لكم الرسول كثيراً مما تختلفون فيه. وتسامح عن كثير من خطاياكم، ويريد أن يجري معكم تصفية شاملة. فعليكم أن تلتفتوا وتنتبهوا وتُعَدِّلوا من موقفكم من هذا الدين الجديد. ولتبحثوا ماذا يريد الله بهذا المنهج. والله قد ضرب المثل بالنور، وهذا النور يهدي إلى (افعل ولا تفعل). ومن الذي يقول لنا إن هذا النور قادم من الله؟ إنه الرسول، ومن الذي يدلنا على أن الرسول صادق في البلاغ عن الله؟ الذي يدل على صدقه هو قول الله: {يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174].فالذي جاء أولا من ربكم هو البرهان على أن رسول الله صادق في البلاغ عن الله، وليبلغنا أن الكتاب قد جاء بالمنهج. والقرآن يتميز بأنه البرهان على صدق النبي وهو المنهج النوراني؛ لأن البرهان هو الحجة على صدق الرسول في البلاغ عن الله.ونعرف البرهان في حياتنا التعليمية أثناء دراسة مادة الهندسة عندما نقابل تمرينا هندسيا فنأخذ المعطيات وبعد ذلك ننظر إلى المطلوب إثباته. ونعيد النظر في المعطيات لنأخذ منها قوة للبرهنة على إثبات المطلوب. وإن كانت المعطيات لا تعطي ذلك فإننا نتجه إلى خطوة أخرى هي العمل على إثبات المطلوب. وهذا الكون فيه معطيات، وهو كون محكم، ونلمس إحكامه فيما لا دخل لحركتنا فيه: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار} [يس: 40].كون موزون بالسماء والأرض وحركة الرياح وغير ذلك، وتلك الأمور التي لا دخل للإنسان فيها نجد القوانين فيها مستقيمة تمام الاستقامة وكمالها. فإن أراد الإنسان أن يأخذ المعطيات من الكون، فليأخذ في اعتباره النظر إلى الأمور التي للإنسان دخل فيها ولسوف يجدها تتعرض للفساد؛ لأن الهوى في البشر له مدخل على هذه الأشياء.لكن الخالق الأعلى لا تطوله ولا تتناوله أمور الهوى. ولذلك يقول سبحانه: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 7].فلا السماء تنطبق على الأرض، ولا كوكب يزاحم كوكبا آخر. ويبين لنا الحق كيفية السير بنظام الكون: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 8].فإن أردتم أن تكون حركتكم منتظمة فانظروا إلى ما لأيديكم دخل فيه واصنعوه كصنع الله فيما ليس لأيديكم مدخل فيه. {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 9].فإن كنتم معجبين باتزان الكون الأعلى فذلك لأنه مصنوع بنظام دقيق. وإذا كان الحق قد وضع لنا نظاما دقيقا هو المنهج ب (افعل كذا ولا تفعل كذا) فذلك حتى لا تفسد حركتك الاختيارية إن اتبعت المنهج، وتصرفت في حياتك بمنهج الله ويكون الميزان معتدلاً. إذن فقد أعطانا الحق معطيات عندما ينظر الإنسان فيها نظرا فطريا بدون هوى فإنها تأخذ بيده إلى الإيمان. وهذه الكائنات الموزونة لابد لها من خالق؛ لأن الإنسان طرأ عليها ولم تأت هي من بعد خلق الإنسان. ولا أحد من البشر يدعي أنه صنع هذا الكون.إذن لابد من البحث عمن صنع هذا الكون الدقيق، والدعوى حين تسلم من الضعف، أتكون صادقة أم غير صادقة؟ تكون صادقة تماما. والله هو الذي قال إنه خلق السماء والأرض والكون. ولم يأت مدعٍ آخر يقول لنا: إنه الذي خلق. إذن يثبت الأمر لله إلى أن يوجد مدعٍ. ومع توالي الأزمنة وتطاولها لم يدع ذلك أحد.وكان لابد أن تكون مهمة العقل البشري أن يفكر ويقدح الذهن ليتعرف على صانع هذا الكون، وكان لابد أن يتوجه بالشكر لمن جاء ليحل له هذا اللغز.وقد جاءت الرسل لتحل هذا اللغز ولتدلنا على مطلوب عقلي فطري، ولو أننا سلسلنا الوجود لوجدنا أن الإنسان هو سيد هذا الوجود؛ لأن كل الكائنات تعمل وتجهد في خدمته. وأجناس الوجود كما نعرفها التي تخدم الإنسان هي الحيوان ويتميز عنه الإنسان بالعقل، وهناك جنس تحت الحيوان هو النبات فيه النمو، وهناك جنس أدنى وهو الجماد. وكل هذه الأجناس مهمتها خدمة الإنسان. والجماد ليس هو الشيء الجامد، بل الهواء جماد والشمس جماد والتربة جماد، وكل ذلك يمارس مهمته في الوجود لخدمة الأجناس الأعلى منها ويستفيد الإنسان منها جميعا والحيوان يستفيد من الجماد وكذلك النبات يستفيد من الجماد، والحيوان يستفيد من النبات والجماد، والمحصلة النهائية لخدمة الإنسان.أليس من اللائق والواجب- إذن- أن يسأل الإنسان نفسه من الذي وهبه هذه المكانة؟ فإذا جاء الرسول ليحل هذا اللغز ويبلغنا أن الذي خلق الكون هو الله وهذه صفاته، ويبلغنا أن هذا المنهج جاء من الله ويحمل معه معجزةً هي دليل صدقِ البلاغِ عن الله، وهي معجزة لا يقدر عليها البشر، ويتحدى الرسول البشر أن يأتوا بمثل معجزته.إذن فلابد أن يؤمن كل البشر لو صَدَقُوا الفهم وأخلصوا النية.ما هو البرهان إذن؟ البرهان هو المعجزة الدالة على صدق الرسول في البلاغ عن الله. هذا البلاغ عن الله الذي بحث عنه العقل الفطري وآمن أنه لابد أن يكون موجودا، لكنه لم يتعرف على أنه (الله). إن الرسول هو الذي يبلغنا عن اسم الخالق، وهو الذي يقدم لنا المنهج.إذن فمجيء الرسل أمر منطقي تحتمه الفطرة ويحتمه العقل. ولذلك أنزل الحق النور العقدي، أنزل سبحانه المنهج ليحمي المجتمع من الاضطراب، ولذلك يقول الحق: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71].إذن فالدين جاء من الله ليتدخل في الأمور التي تختلف فيها الأهواء، فحسم الله النزاع بين الأهواء بأن انفرد سبحانه أن يشرع لنا تشريعا تلتقي فيه أهواؤنا، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».أي أن تتحد الأهواء تحت مظلة تشريع واحد؛ لأن كل إنسان إن انفرد بهواه، لابد أن نصطدم، ولا نزال نكرر ونقول: إن خلافات البشر سواء أكانت على مستوى الأسرة أم الجماعة أم الأمة أم العالم، جاءت من اختلاف الأهواء، ولكن الأشياء التي لا دخل للأهواء فيها فالعالم متفق فيها تماما، بدليل أننا قلنا: إن المعسكر الشرقي السابق والمعسكر الغربي الحالي اختلفا بسياستين نظريتين، هذا يقول: (شيوعية)؛ وهذا يقول: (رأس مالية).إنه لا يوجد معمل مادي كي ندخل فيه الشيوعية أو الرأسمالية ونرى ما ينفعنا. أنَّها أهواء، لذلك تصادما في أكثر من موقع، وانهزمت الشيوعية وبقيت آثارها تدل عليها. لكن الأمور المادية المعملية. لم يختلفوا فيها. ونقول الكلمة المشهورة: (لا توجد كهرباء روسي ولا كهرباء أمريكاني). (ولا توجد كيمياء روسي ولا كيمياء أمريكاني)؛ فكل الأمور الخاضعة للتجربة والمعمل فيها اتفاق، والخلاف فقط فيما تختلف وتصطدم فيه الأهواء.فكأن الله ترك لنا ما في الأرض لنتفاعل معه بعقولنا المخلوقة له، وطاقاتنا وجوارحنا المخلوقة له، ويوضح: إن التجرية المعملية المادية لن تفرقكم بل ستجتمعون عليها. وسيحاول كل فريق منكم أن يأخذ ما انتهى إليه الفريق الآخر من التجارب المادية ولو تلصصها، ولو سرقها، أما الذي يضركم ويضر مجتمعكم فهو الاختلاف في الأهواء. وليت الأمر اقتصر على الاتفاق في الماديات والاختلاف في الأهواء، لا، بل جعلوا مما اتفقوا عليه من التجارب المادية والاختراعات والابتكارات وسيلة قهرية لفرض النظرية التي خضعت لأهوائهم.فكأننا أفسدنا المسألة.. أخذنا ما اتفقنا فيه لنفرض ما اختلفنا عليه.إن الحق سبحانه وتعالى أعطانا كل هذه المسائل كي تستقيم الحياة، ولا تستقيم الحياة إلا إن كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي يحسم في مسائل الهوى، ولذلك حتى في الريف يقولون: (من يقطع إصبعه الشرع لن يسيل منه دم)؛ لأن الذي يقول ذلك مؤمن، أي أن الحكم حين يأتي من أعلى فلا غضاضة في أن نكون محكومين بمن خلقنا وخلق لنا الكون، وتدخلت السماء في مسألة الأهواء بالمنهج: افعل هذا ولا تفعل هذا، لكن ما ليس فيه أهواء أوضح سبحانه: أنتم ستتفقون فيها غصباً عنكم، بل ستسرقونها من بعضكم، إذن فلا خطر منها.إن الخطر في أهوائكم. ولذلك اذكروا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمهات المسائل التي يترتب عليها حسن نظام المجتمع كما يريده الله كان- عليه الصلاة والسلام- يتحمل هو التجربة في نفسه، ولا يجعل واحداً من المؤمنين به يتحمل التجربة، فمسألة التبني حين أراد ربنا أن ينهيها حتى لا يدعي واحد آخر أنه ابنه وهو ليس أباه، أنهاها الله في رسوله صلى الله عليه وسلم: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ} [الأحزاب: 37].وفي مسألة الماديات والأهواء يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون فقال: (لو لم تفعلوا لصلح) قال: فخرج شيصا، فمر عليهم فقال: (ما لنخلكم) قالوا: قلت كذا وكذا قال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) إنه صلى الله عليه وسلم تركهم لتجربتهم.السماء- إذن- لا تتدخل في المسائل التجريبية؛ لأنه سبحانه وهب العقل ووهب المادة ووهب التجربة، ورأينا رسول الله يتراجع عما اجتهد فيه بعد أن رأى غيره خيرا منه كي يثبت قضية هامة هي أن المسائل المادية المعملية الخاضعة للتجربة ليس للدين شأن بها فلا ندخلها في شئوننا، فلا نقول مثلاً: الأرض ليست كروية، أو أن الأرض لا تدور. فما لهذا بهذا؛ لأن الدين ليس له شأن بها أبداً، وهذه مسائل خاضعة للتجربة وللمعمل وللبرهان وللنظرية، بل دخل الدين ليحمينا من اختلاف أهوائنا؛ فالأمر الذي نختلف فيه يقول فيه: افعل كذا ولا تفعل كذا بحسم، والأمر الذي لم يتدخل فيه ب (افعل ولا تفعل) أوضح لك: سواء فعلته أم لم تفعله لا يترتب عليه فساد في الكون، وخذوا راحتكم فيما لم يرد فيه (افعل ولا تفعل)، وأريحوا أنفسكم واختلفوا فيه؛ لأن الخلاف البشري مسألة في الفطرة والجبلّة والخلقة.وهنا يقول: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) و(النور) أهو الكتاب أم غيره؟.وفي آية أخرى يقول: {يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174].وهذا القول يدل على أن النور هنا هو (القرآن) وجمع بين أمرين؛ برهان.. أي معجزة، ونور ينير لنا سبيلنا.{فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا} والإيمان بالله مسألة تطبيقية مرحلية. (الله) هو قمة الإيمان و(رسوله) هو المبلغ عن الله؛ لأنه جاء لنا بالنور. إلا أن أهل الشطح يقولون: النور مقصود به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونقول: نحن لا نمانع أنه نور، وإن كان النص يحتمل أن يكون عطف تفسير، وحتى لا ندخل في متاهة مع بعض من يقولون: لا ليس الرسول نوراً؛ لأنه مأخوذ من المادة وسنجد من يرد عليهم بحديث جابر: ما أول ما خلق الله يا رسول الله؟ قال له: نور نبيك يا جابر.فعن جابر بن عبدالله قال: قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء. قال: (يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيّك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنّة ولا نار ولا مَلَك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي).وحتى لا ندخل في مسألة غيبية لا تستوي الأذهان في استقبالها ونفتن بعضنا. ويقول فلان كذا ويقول علان كذا. هنا نقول: من تجلى له أن يقنع بها أحداً كي لا ندخل في متاهة، وعندما يتعرض أحد لحديث جابر- رضي الله عنه- نسأل: أهو قال: أول خلق الله نبيك يا جابر أم نور نبيك يا جابر؟. قال الحديث: نور نبيك ولم يقل النبي نفسه الذي هو من لحم ودم، فمحمد صلى الله عليه وسلم من آدم وآدم من تراب؛ لذلك ليس علينا أن نتناول المسائل التي لا يصل إليها إلا أهل الرياضيات المتفوقة، حتى لا تكون فتنة؛ لأن من يقول لك: أنت تقول: النور هو رسول الله، ونقول: على العين والرأس، فرسول الله نور ولاشك؛ لأن النور يعني ألا نصطدم، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم بالمنهج كي ينير لنا الطريق، والقرآن منهج نظامي، والرسول منهج تطبيقي، فإن أخذت النور كي لا نصطدم، فالحق يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].إذن فسنأخذ بالمنهج النظري الذي هو القرآن، ونأخذ بالمنهج التطبيقي. {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} و(مبين) أي محيط بكل أمر وكل شيء مصداقاً لقوله الحق: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38].أي مما تختلف فيه أهواؤكم. وسُئل الإمام محمد عبده، وهو في باريس: أنتم تقولون {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} فكم رغيفاً في أردب الدقيق؟. فقال: انتظروا: واستدعى خبازاً وسأله: كم رغيفا في أردب القمح؟. فقال له: كذا رغيف. فقالوا له: أنت تقول إنه في الكتاب. فقال لهم: الكتاب هو الذي قال لي: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].إن قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} أي مما تختلف فيه الأهواء أو تفسد فيه حركة الحياة في الأرض. فربنا هو سبحانه جعل أناساً تتخصص في الموضوعات المختلفة.{قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} يعني: يا أهل الكتاب انتبهوا إلى أن هذه فرصتكم لنصفي مسألة العقيدة في الأرض وننهي الخلاف الذي بين الدينين السابقين ونرجع إلى دين عام للناس جميعاً، ولا تبقى في الأرض هذه العصبية حتى تتساند الحركات الإنسانية ولا تتعاند، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].انظر كيف يجمع الإسلام بين أمرين متناقضين: فلم يجيء الإسلام كي يطبع الإنسان ليكون شديداً؛ لأن هناك مواقف شتى تتطلب الرحمة، ولم يطبعه على الرحمة المطلقة لأن هناك مواقف تتطلب الشدة، فلم يطبع الإنسان في قالب، ولكنه جعل المؤمن ينفعل للحدث.ويقول الحق: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54].أي لا تقل إنّه طبع المؤمن على أن يكون ذليلاً ولا طبعه ليكون عزيزاً، بل طبعه ليكيّف نفسه التكييف الذي يتطلبه المقام، فيكون مرة ذليلاً للمؤمن وعزيزاً على الكافر. وقال الإسلام لنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143].أي لابد أن تعرف الطرفين أولاً، ثم تحدد، لأن الوسط لا يعرف إلا بتحديد الطرفين؛ فاليهودية بالغت في المادية، والنصرانية بالغت في الروحانية والبرهانية: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} [الحديد: 27].وعندما سئل سيدنا عيسى عن مسألة ميراث قال: (أنا لم أبعث مورثاً)؛ لأنه جاء ليجدد الشحنة للطاقة الدينية، وبرغم الخلاف العميق بين اليهودية والنصرانية جاء أهل الفكر عندهم ليضعوا العهد القديم والعهد الجديد في كتاب واحد، ومع ذلك فقد جاء من اعتبر الإسلام خصماً عنيفاً عليهم على رغم أن الإسلام ليس خصماً إنما جاء ليمنح الناس حرية الاختيار، وعندما ننظر إلى المنهج المادي والمنهج الروحاني تجد أن اليهود أسرفوا في المادية وقالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55].لقد أسرفوا في المادية لدرجة أن المسألة المتعلقة بقُوتِهم حينما كانوا في التيه وأنزل ربنا عليهم المن والسلوى، و(المن) كما نعرف طعام مثل كرات بيضاء ينزل من السماء على شجر أو حجر ينعقد ويجف جفاف الصمغ وهو حلو يؤكل وطعمه يقرب من عسل النحل، وجاء لهم بالسلوى وهو طائر يشبه الدجاج وهو السُّماني فقالوا: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61].إننا نريد مما تخرجه الأرض من بقلها، والذي دعاهم إلى غلوهم في الأمر المادي أنهم قالوا: قد لا يأتي المن، وقد لانستطيع صيد الطير، نحن نريد أن نضمن الطعام. إذن فالغيبيات بعيدة عنهم فهم قد أسرفوا في هذه المادية وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعدل هذا النظام المادي المتطرف فأنزل منهجية روحانية متمثلة في منهج عيسى عليه السلام، وشحنهم بمواجيد دينية ليس فيها حكم مادي، كي تلتحم هذه بتلك ويصير المنهج مستقيماً، لكن الخلاف دب بينهم، فكان ولابد أن يأتي دين جديد يجمع المادية المتعلقة الرزينة المتأنية، والروحانية المقسطة التي لا تفريط فيها ولا إفراط، إنها الروحانية المتلقاة من السماء دون ابتداع دين يأتي بالاثنتين في صلب دين واحد. فقال لنا: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} [الفتح: 29].وهذه كلها قيم تعبدية. فيكون هؤلاء ماديين وروحانيين في آن واحد. ويتابع الحق: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة} [الفتح: 29].كأن الله ضرب في التوراة مثلاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: يا من أسرفتم في المادية سيأتي رسول ليعدل ميزان العقائد والتشريع، فتكون أمته مخالفة لكم تماماً. فأنتم ماديون وقوم محمد ركع سجد، يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود. أي: ما فقدتموه أنتم في منهجكم سيوجد في أمة محمد. ويقول الحق: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} [الفتح: 29].فمثلهم في التوراة ما فُقد عند اليهود؛ ومثلهم في الإنجيل ما فُقد عند النصارى. إذن فدين محمد صلى الله عليه وسلم جمع بين القيم المادية والقيم الروحية فكان ديناً وسطاً بين الاثنين. فقال: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} أي انتهزوا الفرصة لتصححوا أخطاءكم ولتستأنفوا حياة صافية تربطكم بالسماء رباطاً يجمع بين دين قيمي يتطلب حركة الدنيا ويتطلب حركة الآخرة.ويقول الحق بعد ذلك: {يَهْدِي بِهِ الله...}.
|